بقلم الكاتب - عبدالباري اسماعيل: المشهد السياسي الليبي ولعبة الغميضة

لا تتحدثوا عن المجلس الإنتقالي فهذا ليس وقته، ولا تجادلوا المجلس التنفيذي فهذه فتنة، ولا تنتقدوا فلان أو علان فتلك خيانة للوطن. وصدقنا ذلك في الشهر الأول والثاني والثالث للثورة ونادينا به، لكن بعد مرور أكثر من نصف عام، وُضعت فيها مسودة دستور ولم نراها وشكلت حكومة إنتقالية أُولي وها هي الثانية في طريقها للتشكيل ولا زلنا نسمع نفس المطلب، وهو أصمتوا وأسمعوا وأطيعوا، فالسفاح الفار ليس أفضل منا وقد حكمكم عقود، وما نحن إلا حكومة إنتقائية سنحكمكم عدة شهور.

لن نستغرب أن يكون أول قانون تسنه الحكومة الإنتقالية الجديدة هو قانون الطواري، تيمناً بحكومات الجوار للتلاعب بثورة شعوبها، والغرض الأساسي منه تكميم الأفواه مبكراً، ونزع السلاح من الثوار، ومأرب أخري تنطوي تحت لعبة الغميضة السياسية، وأولها أن لا يعرف الشعب حقيقة ما يجري، وأن لا يكون هناك معارض بعد إنتهاء مهلة الحكومة الإنتقالية على حذف كلمة إنتقالي مع بقاء الحكومة، وحذف كلمة مسودة ليصبح دستور،عندها لا يرجى منا كمواطنين سوى التصفيق والتطبيل لهذه الخطوة الجبارة لأننا سنكون قد مللنا من سماع كلمة مؤقت وإنتقالي ومسودة. وما يبرر هذا القول هو عدم تصديق أي عاقل بأن كل هذا الكم الهائل من الوزراء ووكلاء الوزارات والتكالب علي تقلدها هو لمجرد فترة قصيرة، لا تستطيع فيها أي حكومة رشيدة إنجاز أي مشروع إقتصادي أو إجتماعي. فهي إذاً خلطة ولعبة سياسية لتكوين كتلة سياسية يصعب تفتيتها. ثم التكرّس أو التكرز (حداقة كرازاي) وتمرير سياسة الأمر الواقع.

شاركتُ في مقال سابق مع الدعاة لتشكيل حكومة تشارك فيها كل الأطياف بصفتها حكومة إنتقالية ومؤقتة، مهمتها الأساسية تسيير الأمور الحياتية للمواطنين لا أكثر ولا أقل، ولمدة ثمانية أشهر فقط، وابتهجنا بالرد الايجابي إسمياً والإعلان رسميا عن عمل ساري لتشكيل حكومة وفاق وطني. ورغم أن الكثير منا يستبعد ما قيل بأن معظم الوجوه الجديدة في حكومة الوفاق هم أعضاء بالمجلس الإنتقالي، حيث ليس من الديقراطية في شئ أن تمزج السلطة التشريعية المتمثلة في المجلس الإنتقالي مع السلطة التنفيذية وهي الحكومة. والمفاجئة إن صح هذا الخبر فإن الوفاق قد تم بين المجلس الإنتقالي والمجلس التنفيذي السابق لا غير، وانحصر الوطن والوطنية في هذين المجلسين.

لم يعلن المجلس الإنتقالي عن كامل أعضاءه حتى الأن عدا بضع أفراد وعلى رأسهم المستشار مصطفى عبدالجليل، الذي أجمع الليبيين على نزاهته ومصداقيته ومبايعته كرجل المرحلة الوحيد، وهذا لا يعني بأن بقية الأعضاء على شاكلته أو نهجه، المطلب الشعبي الذي لا يقبل التأجيل هو أن نعرف من هم أعضاء مجلسنا الإنتقالي "التشريعي" ومن يمثلون. ولا ننتظر إلى أن يأتنا أحد بنبأ قد يكون كاذبا أو مغرضا بأن فلان هو عضو بالمجلس الانتقالي واليوم وزيراً في حكومة الوفاق الوطني.

وأكرر إن صح خلط الأوراق هذا، ولم يعد هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، فلا غرابة أن تبداء محاكم التفتيش قريبا وتضاف السلطة القضائية للحكومة، ولن نستغرب منها بعد ذلك أن يكون من بين أعضاء التشكيل الحكومي المعدل الدكتورعبدالله كنشيل الإبريلي وعلي رأس وزارة خلفاً للمجرمة "الشناقة" هدي بن عامر. فإن كنا في عهد السفاح الفار نقول ساخرين "الحبال منا أو منكم" في المستقبل سنقول جادين "روجه..صنع أمريكي".

من المفاهيم والأقوال المتواترة في مجتمعنا الليبي المسلم لا رغبة إلا في الدين، فما معنى أن يكون هناك شخص ما قد أسندت إليه وظيفتان في حكومة إنتقالية؟ هل هي الكفاءة المطلقة والقدرة اللامحدودة وغياب البديل، أم هو الجشع والأنانية والدكتاتورية المخفية؟ والأسوء أن يجمع فرد ما بين رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، وليس معنى هذا إنه هو الوحيد الذي يعيّن الوزراء والسفراء وكل أعضاء السلك الدبلوماسي فحسب. بل هو الآمر الناهي في الداخل والخارج على حدٍ سواء.
هذه ليست نظرة تشاؤمية للمشهد السياسي الليبي وإنما استشفاف المستقبل قبل أن يأخذنا بغثة. فالخطوة الأولى إن لم تكن في الإتجاه الصحيح فكل الخطى التي تليها ستكون في نفس الإتجاه الخاطئ، وما بني على باطل فهو باطل. ولن تجدي لعبة الغميضة مع شعب يحمل السلاح ولا زالت يداه مضرجة بالدماء طلبا للحرية والديمقراطية، فأزيحوا عنه العصابة ليرى ويقيّم ويدلي بدلوه، وأعلنوا عن كل أعضاء مجلسنا الإنتقالي، وأقسموا اليمين علناً وجميعكم مجلس وحكومة بأنه لا دور لكم في الحكم القادم، ولن تزيد مدتكم عن الثمانية أشهر، فيأخذ عليكم الشعب عهداً، ويصدقكم ويبارك حكومتكم. أم هل ستلقى هذه الدعوة ما لاقاه سلفنا الصالح عندما طالب عسكر إنقلاب سبتمبر 69م بالعودة إلى ثكناتهم؟