د. إبراهيم قويدر
في كلّ صباح يزداد ألمي وحسرتي على أحداث تجري في وطني الحبيب ليبيا.. مخاوف تراودني وهواجس كثيرة تطاردني، أرى الخوف في عيون النّاس على مستقبل بلادنا الحبيبة، ولكن ما إنْ يأتي المساء حتى تهدأ نفسي قليلاً، وتنجلي غمامة الحادثة بتدخّل العقلاء والوطنيّين المخلصين، فيعود الأمل من جديد لليبيا الجديدة، ليبيا حلمنا، التي ليست لمن هم في سنّي فقط، بل لأبنائنا وأحفادنا وناسنا من أطفال وشباب ليبيا.
أرى في كلّ يوم تجاوُزًا وتصرّفًا غير منطقيّ يحدث مرّة هنا ومرّة هناك، على الرّغم من أنّ بعضًا ممّن يقومون بهذه التصرّفات- للأسف- لهم بشكل أو بآخر علاقة بثورة 17 فبراير المجيدة، ولكنّهم يتصرّفون بجهل، واسمحوا لي أنْ أتجاوز وأقول: "بعدم إدراك وإحساس بالمسؤوليّة"؛ لأنّهم لا يقدّرون المواقف حقّ قدرها؛ فنحن معرّضون في كلّ يوم إلى عمليّات تستهدف استقرار البلاد، يقوم بها أنصار ومعاونو النّظام السّابق كعمليّات انتقاميّة، بعد أنْ فقدوا سلطانهم، ولا يعلمون أنّهم يصيبون ناسهم وشعبهم، وأنّهم مهما فعلوا فلن يعودوا مرّة ثانية، ولن يتقبّلهم النّاس في أيّ منطقة من مناطق ليبيا.
ودعوني الآن أحلّل الموقف الحاليّ في ليبيا:
في ليبيا الآن "مجلس وطنيّ انتقاليّ" فقير جدًّا في شؤونه الإداريّة، وخطّة تواصله مع ناسه وشعبه يشوبها بعض الأمور غير المنضبطة، ككوادره الإداريّة والفنيّة التي لم تمكّنه من أنْ يكون بالمستوى المطلوب، وبالتّالي يظهر كأنّه مجلس هزيل، على الرّغم من إيماني بأنّ رئيسه والعديد من أعضائه يريدون خيرًا بليبيا، ويحاولون القيام بذلك؛ لكنْ عليهم أن يعوا بأنّ إهمالهم للجانب الفنيّ في كوادرهم المصاحبة أدّى إلى فقر وعجز شديد في تواصلهم مع النّاس، وهذا ما أدّى- بوضوح- إلى ظهور الشّباب المعتصمين في ميدان الشّجرة، وميدان الشّهداء في طرابلس، وميدان التّحرير في مصراتة، وبقية المدن اللّيبيّة.
وفي ليبيا أيضًا الآن، حكومة انتقاليّة ذات كفاءات علميّة عالية، ولا أحد ينكر ذلك؛ ولكنّهم أساؤوا اختيار المستشارين؛ لأنّ الكفاءة العلميّة العالية تحتاج أيضًا إلى مستشارين لهم خبرة في المجال التنفيذيّ والسياسيّ اللّيبيّ وإلمام تامّ بالقضايا والخلفيّات الإداريّة والفنيّة، "وكان على الحكومة: الرئاسة والوزراء- أن يستعينوا بالكوادر الفنيّة التكنوقراطيّة الموجودة بالبلاد المشهود لهم بالكفاءة، لا أن يتمّ إحضار مستشارين من الخارج ليفرزوا البيانات الشخصيّة، ويضعوا هيكلة للإدارة اللّيبيّة، وهم لا يعلمون عنها شيئًا".
حكومتنا، أيضًا، غاصت في تفريعات وقضايا جانبيّة وملفّات كثيرة فغرقت فيها، وكان عليها أن تركّز على ملفّات محدّدة وواضحة، ولا تدخل في ملفّات أخرى إلاّ بعد الانتهاء من الملفّات الأساسيّة المكلّفة بها كحكومة انتقاليّة.
في ليبيا أيضًا المجالس العسكريّة والكتائب الثّوريّة المسلّحة وغير المسلّحة، هذه التنظيمات- بالنسبة لي شخصيًّا وللعديد من اللّيبيّين كذلك- يشوبها غموض كبير؛ ففي بعض المدن يخيّل لنا أنّهم هم الذين يحكمون البلاد؛ فهم الذين يخصّصون المقرّات ويصدرون الأوامر، ويلتجئ إليهم المواطن ليحلّ مشاكله.
أما ما يحدث في العاصمة "طرابلس"، فشيء مخجل ولا مفرّ من تناوله، فهناك مجلسان: أحدهما رئيسه وصل تطاوله وتهديده إلى الخارج، فهو يهدّد أمريكا ومصر وغيرهما من الدّول، يا سيّدي أنت ثائر، وغضبْتَ وثرْتَ وشاركْتَ في إنهاء الاستبداد، هذا شيء جميل وقد يعطيك شرعيّة لحكم المكتب الذي تجلس فيه، ولكنّه لا يعطيك الشّرعيّة الثّوريّة والأسطوانة المشروخة التي استخدمها العسكر في انقلاباتهم؛ لأنّ الشّرعيّة للشّعب وحده.
والمجلس الثّاني يظهر لنا وكأنّه مجلس لليبيا، ويصرّح تصريحات لا تليق أيضًا مثل المجلس السّابق، وإنْ كان بشكل أخفّ حدّة، ونسألهم بشكل مباشر: مَن أنتم؟! أأنتم ثوّار؟! نحن- اللّيبيّين- كلّنا ثوّار، والفئات القليلة التي تضامنت مع الاستبداد الجزء الأكبر منها انتهى، والباقي إما هارب، أو خائف، أو نائم ينتظر، ويتحيّن الفرصة ليفيق ويخرِّب من جديد؛ ولكنّه لن يعود كما كان.
ومجلس ثالث يسمّي نفسه "مجلس برقة"، ويرفض ويعترض على آليّة اختيار رئيس الأركان، وأنا لأسباب كثيرة لا أريد التعرّض لهذا الموضوع، غير أنّي أوجّه لهم -وهم دارسون للعلوم العسكريّة- وأتحدّاهم أن يأتوا لي بأيّ نظريّة عسكريّة في أيّ مكان في الدّنيا تقول بأنّ الضبّاط في الجيش هم مَن يختارون رئيس أركانهم؟ "فكيف تستقيم الأمور بذلك؟!".
وفي إطار هذه اللّخبطة، ونقولها باللّهجة اللّيبية "الزّيطة"، نتساءل: مَن يحكم ليبيا؟!
إن ما نراه هو أن الذي يحكم في بعض المناطق على الأرض هم من يحملون السّلاح والمتمسّكون به؛ لأنه مفتاح قوّتهم، وبدونه لا يساوون شيئًا؛ لأنّ الشّرفاء الوطنيّين من الثّوار أعلنوا أنّهم مستعدون لتسليم السّلاح والانخراط في الجيش والأمن؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ قوّتهم في بناء وطنهم، والمساهمة في هذه المعركة ليس بسلاحهم الموجّه لتحقيق أطماع يرى البعض أنّ الفرصة سانحة حاليًّا للانقضاض عليها.
يأتي ذلك في ظلّ "مجلس وطنيّ"- كما قلت- يحكم في إطار وضعه المهلهل، مع ظهور تآكل في قاعدته الشعبيّة التي لا يحميها إلاّ شعور اللّيبيّين الطّيّبين، الذين دائمًا ما يحملون الوفاء والتقدير والمحبّة لشخص رئيس المجلس.
إنّ الحكومة الحقيقيّة يجب أن تكون قويّة؛ وأهمّ عوامل قوّتها هو المال، وبالتّالي فعليها أن تبدأ فورًا في تسخير الأموال لخدمة المواطنين وحلّ أزماتهم و اختناقاتهم الحياتيّة، وعليها أن أن تشترى السّلاح من كل من لديه سلاح، وهذا رأي أطرحه الآن وآراه مهمًا في هذا التّوقيت، فيبجب الإسراع به الآن قبل غدٍ.
إذن؛ الحكم في ليبيا مشتّت، ولا توجد رؤية واضحة المعالم في هذه الفترة الانتقاليّة، وهو أمر لا بأس به، لأنّها سمة طبيعيّة في كلّ المراحل الانتقاليّة، ولكنّ الأمر يحتاج منّا إلى صبر وتروٍّ و حكمة.
وأرى أنّ الإسراع بالانتخابات أيضًا مهمٌّ لاختصار تلك الفترة، وها هي مدن ليبيّة صغيرة ومناطق أخرى شرعت في عمليّة انتخاب مجالسها المحليّة؛ ليثبتوا لمن يقول: "إنّ تجربة الانتخابات صعبة وتحتاج إلى توعية اللّيبيّين"، أننا "قادرون بسْ فكّونا من فلسفتكم وتخويفكم لنا".
وأطلب الإسراع بالانتخابات؛ لأنّها ستفرز مؤتمرًا منتخبًا، وهنا سيظهر كلّ شيء على حقيقته، فمن لا يريد أن يرضخ من السّادة في المجالس العسكريّة للشّرعيّة الحقيقيّة المختارة من الشّعب الثائر سيكون في موقف لا يُحسد عليه، ولا أتمنّى أن يحدث ذلك منهم؛ لأنّ عليهم أن يعلموا أنّ الشّعب الذي ثار ضدّ الاستبداد وأنهى نظام أعتى رجل مستبدّ في العصر الحديث، فسيكون حتمًا قادرًا على تنظيف بيته من أيّ شوائب لها بداية تطلّعات سلطويّة تحت مظلّة ما يُسمّى بـ"الشّرعيّة الثّوريّة" الزّائفة، لأنّه لا شرعيّة إلاّ للشّعب.
المصدر موقع islamtoday